أزمة الليبرالية- بين تحديات الشعبوية والمعايير المزدوجة عالميًا

لطالما كانت الليبرالية هي الفكر المهيمن الذي يرسم ملامح الأنظمة السياسية والاقتصادية في العديد من الدول الغربية. تقوم الليبرالية على مبادئ راسخة مثل سيادة القانون، والحماية القوية لحقوق الملكية، والفصل الدقيق بين السلطات، وكلها دعائم أساسية تهدف إلى الحفاظ على الحريات الفردية وضمانها.
علاوة على ذلك، شكلت الليبرالية الأساس الصلب للمنظمات الدولية البارزة، مثل الأمم المتحدة، وسعت جاهدة لتعزيز القانون الدولي وحقوق الإنسان في جميع أنحاء العالم.
ومع ذلك، تواجه الليبرالية اليوم أزمة عميقة وذات أبعاد متعددة على المستويين الدولي والمحلي. على الصعيد العالمي، يتركز الانتقاد الجوهري للمؤسسات الليبرالية حول ما يُنظر إليه على أنه ضعف بنيوي، بل ونفاق متزايد يثير الشكوك.
إذ يُنظر إلى هذه المؤسسات في كثير من الأحيان على أنها تخدم المصالح الإستراتيجية للدول الغربية الكبرى و"إسرائيل"، بدلاً من أن تكرس، بشكل حقيقي وفعال، نظامًا دوليًا مستقرًا وقائمًا على أسس متينة من القواعد العادلة.
لقد دفعت العمليات العسكرية الأخيرة التي قامت بها "إسرائيل"، ولا سيما عدوانها المدمر على غزة، والذي أسفر عن استشهاد أكثر من خمسين ألف فلسطيني بريء، المؤسسات الدولية إلى حافة أزمة وجودية حقيقية تهدد كيانها.
وتُبرز هذه الأحداث المأساوية كيف أن القوى الغربية العظمى - خاصة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة - استخدمت حق النقض (الفيتو) بشكل متكرر في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لتعطيل قرارات حاسمة لوقف إطلاق النار متى شاءت، مما أثار استياءً واسعًا.
كما تكشف هذه الأحداث عن التآكل التدريجي في مؤسسات مهمة مثل المحكمة الجنائية الدولية، كما حدث عندما فرضت الولايات المتحدة عقوبات قاسية على المدعي العام للمحكمة، كريم خان، عقب إصداره مذكرة توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الأمر الذي أثار جدلاً واسعًا.
أما داخليًا، فالليبرالية أيضًا تعاني من أزمة حادة، بل حتى في الدولة التي تُلقب بـ"قائدة العالم الحر"، أي الولايات المتحدة الأمريكية. فقد شكّل قادة شعبويون بارزون حول العالم، مثل دونالد ترامب، وبنيامين نتنياهو، وناريندرا مودي، تحالفات قوية مناهضة لليبرالية مع قوى دينية وقومية متطرفة، متحدين بذلك المعايير والمؤسسات الليبرالية الراسخة في بلدانهم.
وعلى عكس الليبرالية، لا تُعتبر الشعبوية أيديولوجية محددة المعالم بشكل واضح؛ بل هي حركة سياسية معقدة تدّعي تمثيل "الشعب" المهمش ضد "النخبة" الفاسدة و"الدخلاء" الذين يشكلون تهديدًا؛ بمن فيهم المهاجرون والأقليات الضعيفة. وغالبًا ما يقوم القادة الشعبويون بإضعاف سيادة القانون الراسخة، وتقويض مبدأ الفصل بين السلطات، وتوسيع نطاق سيطرة الدولة على الحريات الفردية، مما يقوض الديمقراطية.
فكيف يمكن لليبرالية، إذن، أن تواجه صعود الشعبوية بشكل فعّال ومؤثر؟ يجب أن تبدأ أولاً بمواجهة مشكلاتها الذاتية المتراكمة، وخاصة تورطها العميق في النيوليبرالية والمعايير المزدوجة التي تتبناها في النظام الدولي الذي تقوده الدول الغربية.
خلال العقود الثلاثة الماضية، أصبحت الليبرالية مرتبطة بشكل متزايد بسياسات اقتصادية نيوليبرالية متطرفة، مما أدى إلى تعميق الفجوة الهائلة بين الأغنياء والفقراء. ففي الولايات المتحدة، يتجسد الأثر الأكثر وضوحًا لهذا التفاوت الصارخ في تزايد أعداد المشردين بشكل مقلق، والذين تجاوز عددهم الآن حاجز الـ 650 ألف شخص.
ومع أن بعض عناصر النيوليبرالية، مثل حماية حقوق الملكية وتعزيز اقتصادات السوق الحرة، لها جاذبية عالمية واسعة، فإن هذا النموذج الاقتصادي أيضًا قوبل بانتقادات شديدة نظرًا لأنه يخدم مصالح الأغنياء على حساب الفقراء والمهمشين.
وقد أصبح هذا التفاوت الاقتصادي المتنامي أرضًا خصبة لنمو الخطاب الشعبوي المتطرف. فبحسب بيانات الاحتياطي الفدرالي الأميركي لعام 2025، يسيطر 1% فقط من الأميركيين على 31% من الثروة الوطنية الهائلة. وتمتلك الشريحة التي تتراوح بين 2% إلى 10% ما نسبته 36% من الثروة، أما الفئة التي تتراوح بين 11% و50% فتمتلك 30% فقط. وفي المقابل الصارخ، لا يملك نصف السكان الأدنى سوى 3% ضئيلة من الثروة.
إن مثل هذه الفوارق الاقتصادية الصارخة تغذي الخطاب الشعبوي الذي يصوّر المجتمع على أنه ساحة صراع دائم بين نخبة فاسدة وجماهير مقهورة ومظلومة. لذلك، فإن الراغبين في التصدي للشعبوية بشكل فعال عليهم أيضًا أن يواجهوا الظروف الاقتصادية الصعبة التي تغذيها، وذلك من خلال معالجة التفاوتات الحادة داخل الدول والظلم الاقتصادي المتفشي على مستوى العالم.
وعلى الساحة الدولية، يتعين على الليبرالية كذلك أن تواجه المعايير المزدوجة التي لطالما قوضت مصداقيتها وأضعفتها. فعندما تستخدم الدول الغربية القوية المؤسسات الدولية لحماية نفسها و"إسرائيل" من المساءلة بشأن الحروب والجرائم العسكرية المرتكبة - بينما تدين بشدة روسيا أو غيرها من القوى غير الغربية - فإنها بذلك تزعزع شرعية هذه المؤسسات وتفقدها حيادها.
فالقوة السياسية لا تقوم فقط على القوة العسكرية الغاشمة أو الهيمنة الاقتصادية المطلقة؛ إنما تعد الشرعية عنصرًا أساسيًا وجوهريًا أيضًا في بناء السلطة والنفوذ.
وحين يتجاهل قادة يدعون الليبرالية، مثل جو بايدن، الأعراف الدولية الراسخة خدمةً لمصالح الولايات المتحدة و"إسرائيل"، فإنهم يضعفون النظام الدولي القائم على القواعد، ويجعلونه عرضة لاستغلال الفاعلين الشعبويين الذين يسعون إلى تقويض الأسس الليبرالية.
ولكي تتمكن الدول الغربية من مواجهة الشعبوية بشكل موثوق وفعال على الصعيد العالمي، فلا بد أن تجدد التزامها الصادق بالمؤسسات الدولية الهامة كالأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية. فاستعادة سلطة هذه المؤسسات واستقلاليتها وحيادها أمر ضروري لإعادة بناء شرعية النظام الليبرالي المتهالك.
وعلاوة على ذلك، ينبغي لليبرالية أن تواجه أوجه القصور المتأصلة في ذاتها، وخاصة ارتباطها الوثيق بنموذج رأسمالي متوحش يعمق الفوارق الطبقية ويزيد من التهميش.
وبمعالجة هذه العلل الداخلية العميقة وتجديد التزاماتها الجوهرية، يمكن لليبرالية أن تعيد فرض نفسها كبديل موثوق ومرن للشعبوية المتطرفة على الصعيدين الداخلي والدولي، واستعادة مكانتها كقوة دافعة نحو التقدم والازدهار.